
الجزء الثاني والأخير
حميد رضا غريب رضا
الليبرالية في السعودية
هناك تيار ليبرالي نشط في السعودية، ويمكن القول إن الليبرالية في هذا البلد تتفرع إلى تيارين: تيار علماني وتيار ديني. فبعض الشخصيات الليبرالية تميل إلى الفكر العلماني، حيث تنتقد الدين من أساسه وتروج لقراءات نسوية متطرفة. وقد أصبح التيار النسوي اليوم نشطًا بقوة في السعودية، لا سيما في ظل حرمان المرأة من أبسط الحقوق التي لا تتعارض أصلًا مع الشريعة الإسلامية.
فحتى وقت قريب، لم تكن النساء يمتلكن بطاقات هوية، ولم يُعتبرن بشرًا بالمعنى القانوني، ناهيك عن حق التصويت. مسألة قيادة المرأة للسيارة –وهي أمر عادي في إيران– كانت تُعد في السعودية مخالفة شرعية. وعلى الرغم من رغبة الحكومة السعودية في منح المرأة هذا الحق، فإن المؤسسة الدينية كانت تقف ضد ذلك. حتى الرياضة النسائية كانت تُعد تحديًا، فعندما أُقيم سباق جري للنساء في إحدى الجامعات في بيئة مغلقة ومنفصلة، تدخل المفتي السعودي وألغى الحدث مؤكدًا أنه مخالف للشرع.
وعندما تُمنع المرأة من هذه الحقوق الأساسية والمشاركة المدنية، فمن الطبيعي أن تجد التيارات النسوية المتطرفة مساحة للتأثير والنشاط.
التيار الليبرالي-الإسلامي
من النقاط المهمة التي يمكن ملاحظتها في السعودية، هو التفاعل القائم بين الإسلاميين والليبراليين، حيث نشأ تيار جديد يُعرف بـ”الليبرالية الإسلامية”. في هذا التيار، اجتمع الإسلاميون –سنة وشيعة– مع الليبراليين ليؤسسوا خطابًا إصلاحيًا جديدًا تحت مظلة تحالف يهدف إلى تحقيق أهداف مشتركة. اللافت أن بعض الشخصيات السلفية التقليدية أصبحت جزءًا من هذا التيار.
وفيما يتعلق بدراسة الشخصيات البارزة في هذا التيار، كتب الباحث الفرنسي “ستيفان لاكروا” مقالة مفصلة بعنوان: “التيار الإصلاحي الليبرالي الإسلامي الجديد في السعودية”، تُرجمت إلى اللغة العربية ومتوفرة على الإنترنت، وقد رسمت صورة دقيقة لهذه الظاهرة. وفيما يلي عرض لبعض الشخصيات البارزة في هذا التيار:
الدكتور عبد الله الحامد وسلفية الاعتدال
من الشخصيات السعودية البارزة: الدكتور عبد الله الحامد، وهو عضو نشط في “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية”، وهي مجموعة أسسها المعارض السعودي المعروف سعد الفقيه (المسعري)، الذي انتقل إلى لندن عام 1996 وانشغل بقضايا حقوق الإنسان.
عبد الله الحامد قام بكتابة مؤلف مهم بعنوان “السلفية الوسطية”، ينتقد فيه الخطاب السلفي السائد باعتباره خطابًا أمويًا عباسيًا نشأ في ظل تلك الدولتين، ويرى أنه لا يمتّ بصلة إلى السلفية الحقيقية. دعا الحامد إلى إعادة بناء السلفية على أسس العدالة والإحسان، معتبرًا أن السلفية الحالية تفتقد إلى هذه القيم.
وفي سياق نضاله السياسي، يرى الحامد أن الفكر الرسمي للدولة السعودية يعاني من أزمات بنيوية عميقة، وأن الحل يكمن في إعادة بناء السلفية من جذورها. رغم ذلك، فإن استعمال مصطلح “السلفية الوسطية” قد يبدو متناقضًا؛ إذ لا يمكن الجمع منطقيًا بين السلفية كمذهب تقليدي جامد وبين الاعتدال والتجديد الفكري. ومع ذلك، فإن جهود الحامد تعتبر خطوة شجاعة في سبيل الاعتراف بأزمة العدالة في الخطاب الديني المعاصر.
عبد العزيز قاسم
من الشخصيات البارزة أيضًا: عبد العزيز قاسم، الذي وصفه ستيفان لاكروا بـ”الشيخ الديمقراطي”. كان في الأصل سلفيًا تقليديًا، ثم طرأ عليه تحول فكري جعله من أبرز المفكرين المنفتحين في السعودية.
اتخذ عبد العزيز قاسم خطوات مهمة في مجال التقريب بين المذاهب، وأجرى حوارات مطوّلة مع الشيخ حسن الصفار تناولت أبرز الشبهات الدائرة حول الشيعة ومشاركتهم في الحياة العامة السعودية، فضلًا عن قضايا سياسية ومذهبية شائكة.
سُمّيت هذه المقابلات بـ”مكاشفات صفارية”، وانتشرت بشكل واسع في الإعلام السعودي. كما أجرى مقابلة مشابهة مع العلامة السيد محمد حسين فضل الله نُشرت في صحيفة “عكاظ” السعودية، وكان لها صدى واسع. وقد لمسنا خلال زياراتنا إلى السعودية مدى تأثر الشباب بهذه الحوارات والنقاشات الفكرية.
الشيخ حسن فرحان المالكي
شخصية أخرى مثيرة للاهتمام: الشيخ حسن فرحان المالكي، المعروف بلقب “الثائر على الوهابية”. كان سلفيًا في السابق، لكنه خضع لتحول فكري عميق، ما عرضه للاعتقال بسبب مقالاته وكتاباته.
من أبرز مؤلفاته:
- “الشيخ محمد بن عبد الوهاب: داعية وليس نبيًا”: ينتقد فيه تقديس التيار الوهابي لابن عبد الوهاب، ويعتبره شخصية علمية لا تستحق الغلو فيها.
- “قراءة في كتب العقائد: المذهب الحنبلي نموذجًا”: يقدم فيه نقدًا موسعًا للنزعة التكفيرية في المدرسة الحنبلية.
- “نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي”: يسلط الضوء فيه على تأثير بني أمية في صياغة الرواية التاريخية الإسلامية.
- في مسألة الصحابة، يطرح المالكي نظرية جديدة تدعو إلى قراءة نقدية أكثر اتزانًا، رغم حساسية هذا الملف في البيئة السنية.
الدكتور محمد الأحمري
ومن الشخصيات الفكرية المؤثرة: الدكتور محمد الأحمري، وهو معارض سعودي يعيش خارج البلاد. لديه موقع إلكتروني بعنوان “العصر”، نشر فيه مقالات أحدثت موجة فكرية في السعودية.
من أبرز مقالاته:
- “خدعة التحليل العقائدي”: ينتقد فيها انحراف التحليل السياسي بسبب المواقف الدogmatic العقائدية، ويشير إلى موقف بعض العلماء السعوديين من حرب لبنان، حيث أفتوا بعدم جواز الدعاء لحزب الله.
- “كيف نعالج القضية الشيعية؟”: يستعرض فيه دراسات أمريكية عن الشيعة، منها كتاب “الصحوة الشيعية” لولي نصر، و”إيران الخفية”، ويُحلل كيف تسعى الولايات المتحدة لاختراق الشيعة ومواجهة إيران من داخل الطائفة نفسها.
كما يدافع الأحمري عن الشيعة في مواجهة الاتهامات التقليدية، مثل القول بتحريف القرآن أو الادعاء بأن التشيع من صنع عبد الله بن سبأ، مؤكدًا أن هذه التهم باطلة ومجرد أراجيف تتكرر على ألسنة الوهابية.
ورغم أنه يعيش خارج السعودية، فإن أطروحاته الفكرية لها تأثير واضح في أوساط الشباب السعودي.
الشيعة في السعودية
شهدت الجماعات الشيعية في السعودية نشاطًا ملحوظًا، لا سيما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، إذ خرجت من حالة العزلة والانكفاء. في بدايات الثورة، وخصوصًا بعد مجزرة الحجاج، تصاعد الحس الثوري لدى الشيعة السعوديين. وقد تأسست منظمتان بارزتان آنذاك، أولاهما منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، وكانت غالبيتها من الشيعة، إلا أن بعض أهل السنّة شاركوا فيها أيضًا. أما التنظيم الثاني، فتمثّل في حزب الله الحجاز أو جماعة علماء الحجاز، والذي وُلد بعد مجزرة الحجاج، وتبنّى بعض التفجيرات داخل المملكة، وبدأ مرحلة من العمل العسكري، أسفرت عن مقتل بعض أفراده، واعتقال عدد منهم، فيما لجأ آخرون إلى إيران. هذا النشاط الثوري تراجع لاحقًا، لأسباب وتحليلات عديدة تستحق دراسة مستقلة.
أما اليوم، فتتوزع التوجهات الشيعية في السعودية بين تيارين رئيسيين:
- تيار رافض للشرعية: يرى أن النظام السعودي لا شرعية له، ويعارض أي شكل من أشكال التعاون معه، حتى على مستوى النضال السلمي أو المشاركة السياسية.
- تيار إصلاحي واقعي: يؤمن بضرورة العمل السياسي السلمي والدخول في ساحة النقاش العام للدفاع عن حقوق الشيعة، والتعريف بهويتهم، بل والمساهمة في بناء الوطن. هذا التيار ينشط إعلاميًا وحقوقيًا، ويخوض غمار الحوار المعاصر، ومن أبرز رموزه الشيخ حسن الصفار، وهو من علماء التقريب، ويمثل مرجعيات دينية كآية الله السيستاني وآية الله الشيرازي داخل السعودية.
رغم أن الصفار لا يملك توجهًا ثوريًا علنيًا كالسيد حسن نصر الله، ولا يعلن تقليده للمرشد الأعلى في إيران، إلا أن علاقته مع إيران إيجابية. كما يُعد من الوجوه الفاعلة في مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية، وله تأثير بارز في أوساط الشباب السعودي. طرح مطالب مهمة مثل ضرورة تمثيل الشيعة في الحكومة من خلال تعيين وزير شيعي، وهو طرح أثار تفاعلًا ملحوظًا في وسائل الإعلام السعودية.
كما مثّل الشيخ الصفار الشيعة في الحوار الوطني الذي جمع أطيافًا سياسية وفكرية مختلفة داخل السعودية، وكان له لقاءات عدة مع شخصيات سلفية بارزة، مثل سلمان العودة، والذي تعرض لضغوط كبيرة بسبب هذا اللقاء، إضافة إلى شخصيات أخرى كعوض القرني. الشيخ الصفار يجسد توجهًا يسعى إلى الوحدة والتقريب والدفاع عن حقوق الشيعة داخل الإطار الوطني السعودي.
في المقابل، يرى بعض الشيعة الثوريين في السعودية أن هذا المسار تصالحي ومُضر، ويفقد الشيعة هويتهم الثورية، ويعتبرون أن المكاسب الجزئية لا تستحق التنازلات السياسية الكبرى. بينما يرى آخرون أن هذا النهج المعتدل مؤثر وواعد على المدى الطويل.
المشهد العام في السعودية
هذا عرضٌ موجز للمشهد الفكري والسياسي في السعودية. حتى خارج الأوساط الفكرية والسياسية، يسود حديث واسع عن الاعتدال والتقارب، سواء في الأوساط الشعبية أو بين الفنانين والنخب غير المسيسة.
فإذا كنا، في مرحلة سابقة، عندما نقول: “نحن إخوة ويجب أن نتقارب ونتوحد”، كان بعض السعوديين يردون: “أنتم كفّار، أسلموا أولًا ثم نتحدث عن الأخوة”، فإن الحال تغيّر كثيرًا.
في عام 1986، حين وقعت مجزرة الحجاج، كان المزاج الشعبي السعودي معاديًا لإيران بشدة. أما اليوم، فالواقع مختلف تمامًا. من خلال لقاءات ميدانية لي هذا العام مع شباب سعوديين، لاحظت أن 99% منهم يبادرون بطرح فكرة “الوحدة الإسلامية” قبل أن أتحدث أنا بها، ويتبرؤون من قتل الشيعة والسنّة في العراق، ويؤكدون أنهم يعتبروننا إخوتهم.
هذا التحول يعود جزئيًا إلى التغيرات السياسية في المنطقة، وتصريحات الرئيس الإيراني الأسبق د. محمود أحمدي نجاد، وخصوصًا دعوته لزوال إسرائيل، والتي لاقت صدى واسعًا حتى في السعودية، التي كانت لسنوات مركزًا لمعارضة فكرية ودينية وسياسية ضد إيران.
شاعر سعودي… ونشيد لإيران!
مثال معبّر على هذا التحول: الشاعر السعودي المعاصر بـاشـراحـيـل، المقيم في الرياض. حين أصدر مجموعة من المفكرين الأمريكيين بيانًا يتعلق بالحضور الأمريكي في المنطقة ومكافحة الإرهاب، رد عليهم باشراحيل بقصيدة شعرية بليغة. لكنه أيضًا نظم قصيدة مميزة جدًا في مدح د. أحمدي نجاد بعد تصريحاته عن ضرورة إزالة إسرائيل. حين قرأت القصيدة، شعرت وكأن كاتبها شابٌ “بسيجي” (من التعبير الإيراني المعروف عن شباب الثورة)، مؤمن بخط الإمام الخميني (قده). من اللافت أن هذا الشاعر السنّي ربما لم يقرأ كتابًا واحدًا للإمام الخميني، ومع ذلك جاءت قصيدته بعمق فكري وأدبي لافت، في دلالة واضحة على التغير العميق في المزاج الشعبي.
التعامل الشعبي في السعودية، اليوم، بات أكثر احترامًا وتفهمًا. حتى من ينتقد، حين تُعرض عليه وجهة نظر مختلفة، يغير رأيه. لا يزال التيار التقليدي الوهابي نشطًا، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمارس ضغوطها وتهديداتها على الزوار الإيرانيين والشيعة، بل وعلى كل من لا يوافق رؤيتها. إلا أن الجماهير لم تعد تتأثر بذلك كما في السابق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
